يحدث أحيانًا أن نتعلّق بالأشياء لا بالأشخاص؛ كتلك الوردة التي تلقّيناها مِمّن نحب وخبّأناها في الكتاب لتَيْبس، أو كذلك الزّي المدرسي الذي يُحيي ذكريات المقاعد الدّراسية في أرواحنا فينعشها، أو كهذا الدّفتر الذي يضمّ تعليقاتٍ بريئةً وطريفة تركها لنا أصدقاء الطّفولة لتبلسم حنيننا إلى الماضي. ويحدث أحيانًا أن يكون هذا الشيء مجرّد هاتف.
لا أحبّ تغيير هاتفي بشكلٍ دائم. ربّما هي العادة، أو فكرة تبديل الهاتف مع كل إصدارٍ جديدٍ لا تستهويني. عندما ابتعت هاتفي الأبيض والفضّي منذ أربع سنواتٍ، كان أكثر من جهاز تواصلٍ بالنّسبة لي. كان ذاكرتي النّقالة التي وثّقت أهم مراحل تلك الفترة من حياتي.
رافقني في مشواري الأوّل إلى إسبانيا فخلّد تلك التّجربة بأدقّ تفاصيلها، حتّى حين يغافلني النّسيان، تعود الصّور المؤرشفة في هاتفي لتذكّرني بها.
وإكرامًا لوفائه الدّائم، اصطحبته معي في رحلتي العائلية إلى روما. فأتى ردّه بأن وثّق كل لحظةٍ بلحظة واختزل رحلتي الإيطالية بمجموعةٍ من اللّقطات، وكأنّ المقصود بها طمأنتي بأنّ هذه اللّحظات ستبقى حيةً مدى العمر.
لم يكتفِ بهذه المناسبات فحسب، بل كانت له إطلالته الخاصّة يوم تخرّجي. التقط لحظة استلامي الشهادة الجامعية، وفرحة أمي بتخرّج ابنتها، وحماسَة أبي وتصفيقه، وبراءة أختي الصّغرى وابتساماتها واحتفالي الصّاخب مع أصدقائي.
حتّى أنني كنت أحتفظ برسائلي النّصية كلّها، المهمّة منها وغير المهمّة. أعيد قراءتها بين الحين والآخر فأسترجع تلك الرّسائل التي تضمدّ جرح الاشتياق لأشخاصٍ انقطع الحديث معهم وتستحضر بعض المواقف الطّريفة والكلمات الطّيبة التي دائمًا ما تخلّف وراءها ابتسامةً خجولة ترتسم على شفتَيّ ولو لثوانٍ.
وفجأةً، فقدتُ ذاكرتي…
كُنت أجلس على الأرض الخشبية للشاطئ وصوت خرير المياه من تحتي يُضفي لمسته الخاصّة على الأجواء الصّيفية الحارّة بامتياز العام الماضي، الهاتف بجانبي. لم أكد ألمسه حتّى انزلق بين فتحات الأرض الضّيقة ووقع في البحر.
خيّم الصّمت للحظةٍ ولم أستوعب ما حدث. فضِلْتُ أسترجع الصّوت الذي أصدره سقوط الهاتف في المياه تأكيدًا على أنّني فعلًا فقدته. فقدت ذاكرتي. فقدت ذكرياتي، تجاربي. كأنّ رحلتي إلى إسبانيا لم تحدث يومًا. كأنّ تخرّجي ليس إلّا من نسج الخيال. كأنّ الرّسائل لم تُكتب والمحادثات لم تحصل.
لم أكُن أعلم أن الهاتف يستحوذ على هذه المساحة المهمّة من حياتي. لم أكن أعلم أنّني متعلّقةٌ بجهازٍ احتفظت من خلاله بمرحلةٍ مهمّةٍ من عمري بدلًا من أن أطبعها في ذاكرتي البشرية.
لو لم أفقد هاتفي “غرقًا” لما كنت شعرت بهذا الأثر الكبير الذي تتركه الهواتف في حياتنا، والأهم، لما كنت اتّخذت قرار عدم توثيق أيّ شيءِ على هاتفي بعد اليوم تحسّبًا لأيّ حادثٍ مماثلٍ في المستقبل.
اليوم، ورغم مرور سنةٍ على شرائي هاتفي الأسود الجديد، فلا يزال غريبًا عنّي. لا تربطني به تلك العلاقة التي جمعتني بما سبقه لسببٍ واحدٍ ليس إلّا وهو أنّ “الخذلان” لا يحتمل الشعور به مرّتيْن…